قال الإمام الصادق عليه السلام: "تجلّى الله ـ تعالى ـ في كتابه لخلقه ولكن لا يبصرون".
القرآن الكريم كلامُ الله تعالى: هذه القضيّة تتّخذُ مستوياتٍ عدَّة من الفهم والوعي والإدراك. ونحن إذا تتبعنا البيان القرآني اتضح لنا، أنّ القرآن بهذا الرسم يعني بالتحليل الأخير: (علمُ الله سبحانه). وأنّ الله جلَّ وعلا طرح ذاته المقدّسة من خلال هذا الكتاب العظيم... وَهُوَ كتاب للإنسان، هداية وتنظيماً وإرشاداً. وذلك على جميع الأصعدة الفكريّة والسياسيّة والاقتصادية والتربوية... أي إنّه كتاب لبناء الحياة وصناعة التاريخ.
النقطة الرئيسية التي نريد أن نركّز عليها هنا هي: العلاقة بين الله والقرآن... أنَّها علاقة مصدريّة، علاقة تأسيس... ولكن بأي اعتبار؟!
العلم والإرادة... إنّه علم الله وإرادته ونوره وهدايته... فهو إذن، وبلحاظ هذه المقتربات كتاب الله. هذه الإضافة ليست تشريفيّة أو على نحو الانتماء العام، بل هي إضافة فعليّة قائمة على أساس الفهم العادي والصريح للمصدرية:-
قال تعالى: (إِنَّا أَنَزلنَاهُ فِي لَيْلةِ القَدْرِ) (القدر/ 1).
وقال تعالى: (إِنَّا أَنزَلنَاهُ قُرأَناً عَرَبِّياً) (يوسف/ 2).
القرآن إرادة الله وعلمه... قانون الله لهداية الإنسان وإرشاده في صناعة الحياة والتاريخ... ولأنّه بكل آياته من الله... لكلّ هذه الأسباب نجد هناك حضوراً مستمرّاً دائماً لله تعالى في القرآن... الحضور الثابت... الحضور المتمكن... وهذه إحدى خاصيّات القرآن التي يتميّز بها...
ولكن ما المقصود بالحضور هنا؟ ليس هو ذكر الله تعالى في هذه الآية أو تلك. ولا هو الحديث عن الله سبحانه...
ولا هي إلاّ حالة إلى الله جلَّ وعلا...
إنّه حضور أعمق وأشمل وأعظم من كلّ هذه المستويات والآفاق والمدى...
إنّه الحضور الجامع والمستوعب لكلّ مصاديقه ومفرداته وتصوراته... حضور بمستوى الذات المقدَّسة.
من المقرَّر في العقيدة الإسلامية: أن كلّ الأسماء الحسنى لله ـ سبحانه وتعالى ـ وذلك بنصِّ القرآن الكريم (وَللهِ الأَسمَاءِ الحُسنَى) (سورة الأعراف/ 180) ... وبناءً على ما هو مقرَّر في أصول العقيدة أيضاً أن لله كلّ اسم يليق بساحته المقدّسة حتى إذا لم يرد في القرآن
أو السنة المطهرّة. فهو ـ على هذا الأساس ـ الرحمن... الرحيم... العزيز... الكريم... الخالق... المصوّر... البارئ... الحيّ... القيوم... الرازق... الغفور... الجبار... المتكبر... الحقّ...
وهكذا إلى ما شاء لله من أسماء وعناوين تتناسب وعظمة الله وجلاله.
والله سبحانه حاضر في القرآن الكريم بسعة وعمق وشموليّة أسمائه الحسنى... وهو
حضور ليس بالعابر أوالعاري..
حضور على مستوى الكمّ والكيف.
حضور على مستوى السبب والغاية.
حضور على مستوى البداية والنهاية.
حضور دائم ... مستمر... فعّال... يشكّل مركز الحركة في كلّ تضاعيف القرآن ومفاصله ومفرداته. وليس من ريب أنّ هذا المدى الواسع العميق الفعّال من الحضور يرجع إلى علَّة أساسيّة، ضخمة... ذلك أنّ القرآن من الله تعالى.. كتاب الله... علمه وإرادته ... ورغب للبشر أن يؤسّسوا حياتهم على مضامينه ومحتواه...
هذا الحضور قد يكون مباشراً وقد يكون غير مباشر، والذي أقصده بالحضور المباشر أن يرد في الآية اسمه جلّ وعلا أو صفة من صفاته...
قال تعالى: (قل هو الله أحد) (الإخلاص/ 1).
(الرحمن على العرش استوى) (طه/ 5).
(... إنه هو الغفور الرحيم...) (القصص/ 16).
(... لا إله إلا هو الحي القيوم...) (البقرة/ 255).
ففي هذه الآيات نقرأ اسم الله أو صفةً من صفاته، فهو حضور مباشر بدلالة الاسم المذكور أو الصفة المذكورة... ولكن قد نقرأ في القرآن الكريم:-
(لم يلد ولم يولد) (الإخلاص/ 3).
(وهو القاهر فوق عباده...) (الأنعام/ 18).
(ملك الناس) (الناس/ 2).
(إياكّ نعبد وإياك نستعين) (الفاتحة/ 5).
(ونراه قريباً) (المعارج/ 7).
إنّه حضور إلهي في هذه الآيات، ولكنه حضور غير مباشر، والإنسان يشعر في هذه الآيات أنّ الله ـ تعالى ـ في الصميم من روحها وجوهرها.
فالآيات التي تتحدّث عن يوم القيامة وأهوالها وظروفها... إنّما هو حديث يتّصل بالله في النتيجة... والآيات التي تتطرق إلى موضوع الصلاة، إنما تتصل بالله ـ جلّ وعلا ـ بطرفٍ من الأطراف، وهكذا مع الصوم والحج والزكاة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والرزق والبلاء ومع حركة الكون والحياة والتاريخ، وبهذا يتحقّق حضور الله في كلّ آيات القرآن بشكلٍ وآخر.
نقرأ كلمة (الله) في القرآن الكريم (980) مرَّة، وكلمة الله هي الاسم الجامع لكلّ أسمائه
وصفاته جلَّ وعلا.
نصادف كلمة (الرحمن) كصفة لله جلَّ وعلا (57) مرَّة، وهو اسم من الرحمن ولا يطلق
إلاّ على الله وحده.
ونطالع كلمة (رحيم) (54) مرّة.
نجد أن كلمة (حكيم) كاسم من أسماء الله تتكرّر في تضاعيف القرآن أكثر من (75)
مرّة.
نتلو كلمة (العليم) كاسم من أسمائه عزَّ وجلّ (140) مرَّة.
كلمة قدير(45) مرّة.
كلمة سميع (47) مرّة.
كلمة بصير (51) مرّة.
كلمة حميد (17) مرّة.
كلمة مجيد مرّتان.
كلمة العزيز (89) مرّة.
كلمة غفور (96) مرّة.
كلمة غني (18) مرّة.
كلمة رب (969) مرّة.
كلمة خبير (45) مرّة.
كلمة الحي (14) مرّة.
كلمة القيوم (3) مرّات.
وهكذا مع كلّ أو أكثر أسماء الله سبحانه وتعالى، وليس من ريب أنّ لهذه الكثرة في الكمية دلالة ضخمة وعريضة وعميقة، فإنها تؤكّد الحضور الإلهي المكثّف والمركّز والفاعل في الخطاب القرآني... على أنّه ليس حضوراً كميّاً عابراً وبسيطاً، أيّ ليس حضوراً كميّاً صرفاً، لأنّ الله ـ تبارك وتعالى ـ في القرآن الكريم ليس رحماناً رحيماً فحسب بل هُوَ (أرحم الراحمين). ولم يكن ـ جلّ وعلا ـ رازقاً وكفى بل هو (خير الرازقين). وليس هو قديراً فقط بل هو (على كل شيء قدير). وهو ـ جلّ وعلا ـ ليس سميعاً وانتهى الأمر، بل هو (سميع عليم) و(سميع بصير) و(حميد مجيد). وليس هو الغنيّ فقط بل (غني حميد). وعلى هذا المنوال تتوالى صفاته وهي تمثّل المطلق من التحقق والثبات... ومن كلّ هذا نستنتج أنّ حضور الله من خلال أسمائه في القرآن ليس حضوراً سطحياً أو عامّاً أو بسيطاً عادياً، بل هو حضور على مستوى ذاته المقدّسة، وذلك بكلّ ما تعنيه من كمال. أن كثيراً من النقّاد في نقده الأدبي يعقد إحصاءً للكلمات الواردة في هذه القصيدة أو تلك، ويحاول أن يكتشف الموضوع الجوهريّ في القصيدة من خلال عمل إحصائي استبياني... بل ربّما يعمد إلى هذه المحاولة مع الديوان كلّه... وفي الحقيقة أن ذلك يشكّل خطوة أولى على هذا الصعيد، إذ لابدّ مع هذا من أن يبذل جهداً إضافياً لاكتشاف طبيعة هذا الحضور.. وزنه.. أهميته.. موقعه.. دوره.. ونحن لا ريب نلتقي بعدد ضخم من أسماء الله وصفاته في تضاعيف القرآن... ولكن ما هي أجواء وظروف هذا العثور؟ إنّ الكثرة المطلقة لآيات القرآن الكريم تتصل بالله ـ تعالى ـ بشكل من الأشكال أوبطريقة من الطرق، فأمّا أن يُذكر فيها اسم من أسمائه، أو تتضمن عائداً يشير إليه ـ سبحانه ـ أو تحفها أحوال وظروف وأجواء تربطها به ـ سبحانه وتعالى ـ ولذلك فإنّ الله حاضر في الكثرة الكاثرة من آيات الخطاب القرآني المبارك.
لنأخذ السورة التالية:
(إِنَّا أَنزلنَاهُ فِي لَيلةِ القَدرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيلةُ القَدرِ* لَيلةُ القَدرِ خَيرٌ مِّن أَلفِ شَهرٍ* تَنزَّلُ
المَلائِكةُ والرُّوحُ فِيَها بِإِذنِ رَبِّهمِ مِّن كُلِّ أَمْرٍ* سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطلعَ الفَجرِ) (سورة القدر).
هذه السورة المباركة تتألف من خمس آيات، وفي جميعها حضور لله سبحانه، فالضمير في الآية الأولى يعود على ربّ الجلالة (إِنّا). وفي الآية الثانية يستبطن معنى دقيق مفاده أنّ الله وحده يعرف ما هي قيمة الليلة العظيمة، وفي الآية الثالثة نلتقي بعملية تقييم لهذه الليلة، ولكن ما هو مصدر التقييم؟ إنّه الله ـ سبحانه ـ الذي جعلها (خير من ألف شهر). وفي الآية الرابعة نقرأ كلمة (ربّ) التي هي صفة من صفات الله، وأخيراً فإنّ ليلة القدر سلام من كل خوف (بإذن الله) إذ أنزل فيها كتابه المجيد.
لنأخذ السورة الآتية أيضاً.
(إِنَّا أَعْطَيناكَ الكَوثَرَ* فَصلِّ لِربِّكَ وَانْحَرْ* إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ) (سورة الكوثر).
فمن الواضح أنّ هناك حضوراً إلهياً في الآية الأولى والثانية، وحضوراً مستتراً ـ إذا صحَّ التعبير ـ في الآية الثالثة، ذلك أنّ معناها: إن مبغضك وهو (العاص بن وائل) مقطوع الأثر... ولكن ما هي أجواء هذه الإشارة إلى المستقبل؟! كيف تكتسب هذه الوثوقية المؤكدة؟! ذلك أنّ الآية تحمل هذا التوكيد باعتبار أنّه إرادة الله في هذا المبغض. فهو مقطوع الأثر ليس لأن محمّداً (ص) يرغب في ذلك أو لأنَّه فعلاً كذلك. بل لأنّ الله حكم
عليه!! وبهذا يتّضح حضور الله في هذه الآية بدلالة أعمق وأكثر فاعلية بالقياس إلى الآيتين السابقتين.
ولنقرأ هذه السورة:
(قُلْ أَعُوذُ بِربِّ الفَلقِ* مِن شَرِّ مَا خَلقَ* وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذا وَقبَ* وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي
العُقدِ* وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذا حَسدَ) (سورة الفلق).
فالله موجود في كلّ آيات السورة المباركة. فهو ـ سبحانه ـ في الآية الأولى (ربّ الفلق)، واسم الجلالة. فاعل في الآية الثانية. وفي الثالثة يمكننا أن نقول على ضوء المقدّمة:
إنّ المعنى هو: أعوذ بربِّ الفلق من غاسقٍ إذا وقب، هكذا مع الآيتين الرابعة والخامسة.
وبهذه الطريقة نستطيع أن نتلمس وجود الله وحضوره الصميمي في الكثرة الكاثرة من آيات الكتاب العظيم بل في كلّها. وهي ليست بالطريقة المتكلفة أبداً؛ لأنّها تعتمد شواهد نحويّة وبلاغية ومنطقية...
والآن نطرح هذا السؤال:
ما هي طبيعة هذا الحضور الإلهي؟!
ما هو وزنه؟ وما هو مداه؟
إنّه ليس بالحضور العابر أو الاستثنائي، ولا هو بالحضور الآتي أو المنقطع... إنّ لله ـ تعالى ـ في القرآن حضوراً مستمراً، كما هو حضوره ـ جلّ وعلا ـ في الكون (هُوَ الأوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ) (الحديد/3) فهو حاضر في القرآن بأمره ونهيه، بإرشاده وهدايته، بوعده ووعيده، بإخباره عن الماضي والحاضر والمستقبل، ببيان قدرته وعظمته وجلاله، بقوانينه وشرائعه... فهو الحضور الواسع الممتدّ المتمكّن مع كلّ آيات القرآن الكريم... وربما بل كثيراً ما نجد هذا الحضور أكثر من مرّة في آية واحدة.
قال تعالى : (قُلْ يَا عَباديَ الَّذينَ أَسْرفُوا عَلَى لاَ تَقنَطُوا مِن رَّحمةِ اللهِ إنَّ اللهِ يَغفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحيمُ) (الزمر/ 53).
فالياء في يا عبادي تعود إلى الله سبحانه، ثم هناك (رحمة الله) وبعدها مباشرةً (إنّ الله). وتختم الآية بذكر صفتين من صفاته بعد تصديرها هما بضميرين يعودان عليه جلَّ وعلا (إنّه هو الغفور الرحيم)، ففي الآية يأتي ذكر الله - جلَّ وعلا ـ بطريقة أو بأُخرى سبع مرّات.
فيما يكون عدد المفردات التي تتكون منها الآية هي (23) مفردة، ولو تأملنا حضوره ـ سبحانه ـ في الآية لتبين عمقه ووزنه، فهو إمّا من خلال إضافة (الذين أسرفوا على أنفسهم) إليه بلغة العبوديّة (عبادي) وإمّا من خلال كونه مقترناً بالرحمة (رحمة الله) أو مع التوكيد (إنّ الله...)، أو يكون مقترناً بالتوصيف المؤكد المتلاحق (إنّه هو الغفور الرحيم)... إنّ مثل هذا الحضور موجود بكثرة عالية في آيات القرآن الكريم، ولعلَّ آية الكرسي مثلٌ رابع في هذا المجال. وعلى منوالها كثير وكثير.
لنأخذ قوله تعالى: (فَلنَقُصنَّ عَلَيهم بِعلمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبينَ) (الأعراف/ 7).
ففي هذه الآية القصيرة نلتقي بذكر الله أكثر من مرّة، خاصّة إنّ كلمة (بعلمٍ) تستبطن أنّ العلم هنا من الله، وهذا واضح. وبذلك يشمل الوجود الإلهي كلَّ الآية.
قال تعالى: (وَلقَدْ مَكَّناكُمْ فِي الأَرضِ وَجَعلنَا لَكُم فِيهَا مَعَايشَ قَليلا مَا تَشكُرُونَ) (الأعراف/ 10).
فإننا نلتقي مع الله في (مكّناكم) وفي (جعلنا) بشكل واضح وصريح، على أننا أيضاً نلتقي معه ـ سبحانه ـ في (قليلاً ما تشكرون). إذ المعنى نادراً ما تشكرون الله. وبهذا نجد أنّ هناك حضوراً (لله) في آيات القرآن، بل هناك أكثر من حضور له سبحانه في الآية الواحدة. من بديهيات الدين الإسلامي الحنيف أنَّ محمّداً (ص) هو مبلِّغ الوحي الإلهي إلى الناس، وبناءً على هذا التصور كان هو الإنسان الكامل (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ) (الأحزاب/21). وللنبيّ (ص) حضور في القرآن الكريم. ولكن هذا الحضور تابع أو على هامش الحضور الإلهي الواسع المتمكّن المهيمن، فلم نجد عن حياة الرسول في القرآن إلاّ إشارات عابرة هنا وهناك، ومع ما صدرَ في حقّه من ثناء ومديح ولكن بلسان المنَّة عليه!! وصاحب المنَّة هو الله تبارك وتعالى، وأحسن وأشرف ما وصف به (ص) أنّه عبد الله!!. قال تعالى:
(ألم يجد يتيماً فآوى* ووجدك ضالاً فهدى...) (الضحى/ 6-7).
(وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا...) (البقرة/ 23).
(هو الذي ينزل على عبده آياتٍ...) (الحديد/ 9).
(فأوحى إلى عبده ما أوحى) (النجم/ 10).
فهو لا شك فيه حضور ولكنْ حضور تابع ومقرور، أمضاه الله ـ سبحانه وتعالى ـ ويتبين هذا الحضور التابع، وبكلّ وضوح من خلال الأوامر الصادرة إليه:-
قال تعالى: (أقرأ باسم ربك الذي خلق) (العلق/ 1).
وقال تعالى: (يا أيها المزمل* قم...) (المزمل/ 1-2).
وقال تعالى: (يا أيها المدثر* قم فأنذر...) (المدثر/ 1-2).
ويتأكد الحضور التابع من لغة التحذير والعتاب والتوبيخ والتشديد في بعض الأوامر والنواهي في هذا المجال أو ذلك:-
قال تعالى: (يَا أَيُّها النَّبيُّ لِمَ تُحرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لكَ...) (التحريم/ 1).
وقال تعالى: (وَلَو تَقوَّلَ عَلَينَا بَعضَ الأَقَاوِيِل* لأَخذنَا منهُ بِاليَمينِ) (الحاقة/ 44).
وكل نقطة مشرقة في حياة نبينا ـ وحياته كلّها إشراق ـ مسجّلة في القرآن الكريم بوصفها فضلاً من الله تعالى. من كل ذلك نفهم حقيقة حضور محمّد (ص) في القرآن، إنّه ليس بالحضور المؤسِّس بل حضور تابع، مقرور، أمضاه الله سبحانه في جذره وأساسه وآفاقه، فهناك فرق نوعي كبير بين حضور الله في القرآن وحضور نبيّه (ص) ولذلك دلالة دقيقة سوف نستظهرها بعد حين. ويدخل في هذا الإطار موضوع (مقول القول) في القرآن الكريم، فهو ذو دلالة تصبُّ في اتجاه الحضور الإلهي المهيمن في القرآن الكريم.
قال تعالى: (يسأَلونكَ عَلَى الأَهلَّةِ قُلْ هِي مَواقِيتُ للنَّاسِ) (البقرة/ 189).
(وَيسألونَكَ عَن المَحيضِ قُلْ هُوَ أَذىً) (البقرة/ 222).
(وَيسألَونَك عَنِ الرُّوحِ قُلْ الرُّوحُ مِن أَمرِ رَبِّي...) (الإسراء/ 85).
في هذا التركيب اللغوي القرآني مستويات مهمّة من الحقيقة، تتفاعل فيما بينها لتؤكد الحضور الإلهي التامّ في القرآن الكريم. ترى لماذا لا يأتي الجواب عن السؤال المطروح مباشرة، وذلك بدون تصديره بكلمة (قُل)؟! كأن يقال في غير القرآن: يسألونك عن الأهلة، فهي أو أنها مواقيت للناس. فلا داعي لكلمة (قل)... في الحقيقة أنّ كلمة (قل) هنا تؤدي دوراً خطيراً في تعزيز وتوكيد الفاصل بين محمّد (ص) وأصل القرآن كخطاب ف(قلّ) تؤكد الوحي هنا أكثر ممّا لو جاء الجواب مجرَّداً منها. وهذا واضح جدّاً، كما أنّها تؤكد أن محمّداً مجرّد ناقل وأنه أمين
على الجواب ونقله وليس صانعاً له أو مؤسِّساً، وذلك حتى إذا ادَّعى أنّ الجواب وحي بطريقة من الطرق. ولكن لماذا لم يتصدَّر الجواب ب(أجب) مثلاً؟! وذلك بدلّ (قلّ)، والواقع أنَّ دلالة النقل والإبلاغ من جهة أخرى إلى المخاطب تكون أبلغ وأقوى وأعمق بكلمة (قل) من غيرها، بما في ذلك كلمة (أجب) مع أنّ حقيقة مقول القول هنا هي جواب محض على سؤال مطروح على النبيّ، إنّ محمّداً (ص) هنا ينقل جواب الله على السؤال، أمّا إذا تصدَّر الجواب المذكور (أجب)، فإنّه قد يوهم بأنّه جوابه بالذات وليس جواب الله تبارك وتعالى. فالخطاب القرآني هنا يلاحق بدقّة متناهية أضعف احتمالات الوهم التي قد تؤسس علاقة مصدريّة بين النبيّ والقرآن ولو بحدود ضئيلة، بل ولو في حدود إمكان الفهم الخاطئ. أنّ ما بعد (قل) يفيد وحياً خالصاً ومن دون أي حرج في التفكير والفهم. كما أنّه ينسجم مع كون القرآن كلام الله أو قوله انسجاماً تاماً ومطلقاً، وهي تشير إلى أنّ محمّداً رجل مأمور لأنّه ينتظر الجواب أو الأمر من جهة أخرى. لنتدبّر أكثر في الجملة (يسألونك) يعود ضمير المفعولية إلى الرسول (ص)، فهو المسؤول من قِبل الآخر، وبهذا الضمير من حيث الموقع وعلاقته بالفعل والفاعل السابقين عليه يمثّل محمّد مركزاً في الآية، فهو الطرف البارز والمهيمن، فالناس يسألونه إمّا اختباراً عاماً أو استفادة، ولكن هذه المنزلة سرعان ما تكون هامشيّة، أو هذا
الحضور سرعان ما يكون تابعاً إذا أكملنا الآية بواسطة (قل). وبمقدار ما يكون حضور النبيّ طاغياً وبارزاً في البداية، نراه يتهمّش بدخول (قل) التي نستبطن تبعيته وكونه عبداً مأموراً، بل كونه لا يملك شيئاً إزاء هذه الجهة التي تأمره ب(قل)، ومن هنا، وبواسطة (قل) هذه يتحدّد
موقع محمد (ص) في القرآن إزاء الحضور الإلهي العظيم. وفي مكان آخر يتّضح هذا الحضور الهامشي بالنسبة للحضور الإلهي في القرآن
الكريم بقوله سبحانه وتعالى:
(وَيَستَفتونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللهُ يُفْتيكُمْ فِيِهنَّ...) (النساء/ 127)
(يَستفتُونكَ قُلِ اللهُ يُفتيكُمْ فِي الكَلاَلةِ...) (النساء/ 176)
(قُل لاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزائِنُ اللهِ وَلاَ أَعلمُ الغَيبَ) (الأنعام/ 50)؛ وتجد أنَّ مثل هذه الحقيقة في أبسط الأمور.
قال تعالى: (وَإِذا جَاءَكَ الَّذينَ يُؤمِنونَ بِآيَاتنَا فَقُلْ سَلامٌ عَلِيكُمْ...) (الأنعام/ 54). أي حتى على مستوى التحيّة وصيغتها يتراجع موقع النبيّ في القرآن إزاء الحضور الإلهي. ومن الملاحظ أنّ كلمة (قل) تكرّرت في القرآن الكريم (332) مرَّة في مواضيع شتى، العقيدة والشريعة والأخلاق والأخبار بالغيب ومقاصد الكون وغايات الحياة ومصير الوجود... إلخ. وفي جميعها يتحقق الفاصل بين محمّد (ص) وأصل الخطاب ويبدو من
خلالها النبيّ ناقلاً وحسب!!
من كل ما سبق نستنتج الحقائق التالية:
الأولى: أنَّ لله تعالى حضوراً واضحاً مهيمناً في القرآن الكريم، هذا الحضور يتسع لكلّ آيات الكتاب الحكيم.
الثانية: أنّ هذا الحضور يتجلى من الذكر الكثير لأسماء الله تعالى في القرآن. وإنّ هذه الكثرة غالبة ومسيطرة وشاملة.
الثالثة: أنّ هذا الحضور ليس عابراً، بل هو حضور خلاَّق مُهيمن، فليست القضية هنا تكرّر أسماء الله، بل تكرّر مع إمضاء أولويَّة الحضور وأصالته وجذريّته.
الرابعة: أنّ الله حاضر في آيات القرآن من خلال أمره ونهيه، وعده ووعيده، قوانينه وتشريعه، صفاته وأسمائه، عظمته وقدرته ورحمته من خلال الكون والحياة.
الخامسة: الحضور الواضح لمحمّد (ص) في القرآن، ولكنّه على هامش الحضور الإلهي الشامل والكامل.
وماذا بعد كلّ هذا؟!
إنّ كلّ ذلك يؤكد أن القرآن من الله ـ سبحانه وتعالى ـ وأنّ محمّداً (ص) مجرّد ناقل، مُبلِّغ... وإلاّ لماذا هذا الحضور المتجسّد لله تعالى في كلّ آيات القرآن بشكل وآخر... ولو كان هذا القرآن ـ والعياذ بالله ـ من غير الله حقّاً لظهرت آثار ذلك بحضور فاعل ومؤثر، وليس بهذا المستوى العادي الذي هو مجرّد النقل والتبليغ. إنّ القرآن كتاب الله مصدراً وأساساً ومضموناً، وقد جاء لتعبيد الإنسان لله ولذا لابدّ من أن يكون حضوره ـ سبحانه ـ في هذا القرآن السمة البارزة والواضحة والمهيمنة، وهذا ما كان.